عقول قبيحه

جانفي 23, 2010 § 2 تعليقان


متثاقل الخطى دنوت منه، وكان متثائبا يجيب على سؤالي: أيوه 988 اللي بيتحرك على الرصيف ده.

انطلقت مثل رصاصة خرجت خطاء نتيجة انفعال نحو هدف متحرك، رغم صقيع الفجر، رغم خمول عضلاتي وتململ عقلي بعد تناول السحور، رغم عظم حواجز الارصفه والتي وجب علي عبورها عن طريق السلم، رغم سرعة انطلاق القطار، ركدت بجانبه حتى تواتيني فرصة للقفز بداخله دونما تعثر، لم يكن هنالك في هذه الساعه غيري يجاهد من اجل اللحاق بهذا القطار، فلم يعد امام كل من بالمحطه ممن يملون طول الانتظار غير ان يراقبوا جهادي المحموم، انتقل مشهد المراقبه إلى مشهد الدهشه على وجوه عاملي القطار حين سقط بداخله.

مش ده 988 اللي رايح القاهره . سألت العامل بينما خرجت كلماتي و كأنها اخر كلمات اود ا اقولها وانا الفظ انفاسي الاخيره.

اجابني مرسلا الي نظرات الشفقه على ما الم بي من اعياء: ايوه يا بيه ،وريني التذكره كده، اه وهيه دي العربيه اتفضل.

فتح لي باب العربه التي قدر ان يكون لي بها مقعد خطوت خطوتي الاولى متفحصا الاجساد الملقاه على المقاعد بحركات تشبه اوضاع راقصة باليه كانت قد تركت هذه المهنه لتتفرغ لتقشير البصل بالمطبخ، اجساد لا يكاد عقلك ينشغل برسمها حتى يأتيه الخاطر ليصورها لك على خشبة مسرح.

ترددت في ايقاظه، فلقد عجبت من حماس اندفاع الهواء بداخل احشائه وخروجه في تكرار رتيب، وكأني على وشك ايقاظ بركان خامد الجوارح، لكن العواقب لم تكن بمثل هذا السوء، مجرد عبوث وجهه نبأني بأحداث بقية يومي، ترك لي المقعد متثاقلا لأجلس واشعر بشد عضلة الفخذ الاماميه اللتي طلما المتني بعد حركة مفاجئه، تألمت وانا مغمض العينين لافتحهما على جاري يرمقني بنظرات تفحصيه وكأنما يريد أن يشتري بضاعة يحاول ان يجد العيب المخبأ في ثناياها، كان رجلا يخفي من اللحم بداخل ملابسه مثل حجمي خمسة اضعاف، يرتدي بدله قديمه الطراز، ممسكاً بكتيب يحمل عنواناً دينيا، لحيته تكاد تأخذ شكل السهام من حده أطرافها المتناثره على صدره، لم تكن عيناه اقل ضراوة من بقية مكوناته، بل كانت شاشة عرض افكاره بالنسبة إلي.

بعد أن اجبت عن أسئلة التعارف التقليدية، استنكر بشدة سؤال قد اجبته بأني طالب منتقل من حياة المدرسه إلى الحياه الجامعيه، وجاءني جواب التنسيق بعد أن اختار لي كلية الفنون الجميلة ليكون إسمي مدوناً بين عديد من الاسماء في دفاتر شئون الطلاب الرثة القديمه.

أغلق الكتيب واعتدل في جلسته و استنشق كل الهواء الذي بيننا ليأخذ وضعية الاستعداد للنصح والارشاد الذي رأى انه من الواجب عليه كمسلم أن يقوم به تجاه الجيل الجديد من المسلمين امثالي من هم يوشك أن يضل بهم الطريق.

أفرغ ما بداخل أوردته دفعة واحدة، ولكن هذه المره كان الهواء ليس فقط معباء برائحة كل أنواع المأكولات التي تناولها على السحور، ولكن أيضا كان محملا بكل الجمل التي يكبلها كلمة حرام، وكأنها صحوة الجهاد ايقظت جنود المواعظ في دمه.

لم أحرك ثاكناً، أكتفيت برمشة عيناي في صمت تام، احس هو بعدها بأن جيوش الحق التي اقتادها في وجهي قد الحقت بي الهزيمه دونما مقاومة تذكر، قال لي في هدوء الواثق من نتيجة حملتة تلك:

أنت باين عليك شاب طيب وبتسمع النصيحه وانت لسه عالبر، وعايز نصيحتي، خشلك كليه تعرف بيها دينك احسن مالمسخره ولعب العيال.

أجبته في هدوء: أنا فعلا بفكر اني مدخلش فنون جميله.

قال لي فرحا مستبشرا: بارك الله فيك انصحك بكلية أصول دين أو دار العلوم.

ترددت في أن القي عليه جوابي حتى لا يخرج سيفا من داخل الكتيب ويجعل فتحتي أنفي ثلاثه.

لكني لم أهبه بعد ان هدءات محركاته وصار مثله مثل القطار حيث يوشك أن يتوقف عند محطة نزوله، فنهض واوصلته إلى باب القطار ونزل وهو يعانقني بحماسة اعتصرتني ويقول بينما القطار يتحرك بي:

مقولتليش نويت تدخل ايه .

قلت له بصوت مرتفع : معهد السينما.

اخر مارأيت من ذلك الرجل ملابسه الداخليه بعد ان سقط بنطاله بينما كان يحاول اللحاق بالقطار من أجل اقامة الحد علي.

رجعت لمقعدي لأجد جاري الجديد وقد محى رؤيتي له كل الحظات الفائته وكأنما سقطت مع بنطال جاري القديم.

تغيرت رائحة الهواء، وكأن نوافذ القطار قد فتحت للتو عن اخرها وكأنما لون السماء لون بالازرق الفاتح بعد ان انقشعت عنه غمامة رمادية محملة بدخان أسود.

جلست في هدوء تام وبينما اتأمل ورقة الترشيح للجامعه، سألتني بصوت وددت لو لم اسمع بعده اي صوت أخر:

انت جاتلك فنون جميله؟

قلت : ايوه.

قالت : يا بختك، أنا كان نفسي ادخل فنون جميله من زمان ، بس المجموع بقا .

أفصحت لها سريعا عن رغبتي في معهد السينما، وأن عشقي للتمثيل أكبر بكثير من الرسم, فاجابتني بأنهم جميعا فنون، وأن دراسة الفن عموما ممتعه وتخاطب الروح قبل العقل، على عكس جميع الكليات النظرية التي تتصارع في حشر ما أمكن من مكعبات الكلام بداخل الرأس حيث تلقى بين طيات ملزمة الإجابه بالمتحان، والتي بدورها تتراكم كجبل يتصارع المصححون في هدمه.

بس تعرف، انا بحب الفن اه وبرسم، بس معهد السينما، لا مقدرش ابدا اتخيل نفسي ممثله وده يحضن وده يــــــــ……

لا صعب قوي وحرام كمان.

وها هي قد أغلقت ستائر القطار ثانية، بعد أن ظننت ان يومي قد أشرق، وتركتني عند محطة وصولها بعد ان همست بأذني:

انت لطيف قوي.

لم تستطع عيني ان تترك أثرها وهي ترحل لأخر العربه، إذ بوخزة افاقتني من غيبوبتي قد وخزني اياها ولد يصغرني سناً وهو يقول لي:

ايه يا عم أنت مشوفتش بنات قبل كده؟!؟ خدني جنبك.

قلت في نفسي: هيه قلبت مراجيح كده ليه؟!

فلم يتبقى لي من هذا اليوم غير هذا الذي استولى على المقعد بجانبي ليأرق رحلتي حتى النهايه، أخذ يسمعني عديد مما أطلق عليه مسمى أغاني، سألني عند نزوله عن دراستي، فأجبته بما يأرقني، فقال لي وهو يستعجل نفسه للرحيل قبل ان تفوته المحطه:

فنون ايه؟! جميله، أنت مشوفتش فيلم بالالوان الطبيعيه؟!؟ لا ياعم حرام يا جدع خد نصحتي معهد السينما ارحم.

بعدما ذهب وجدت كتابا قد سقط منه سهواً بجواري، كان عنوان الكتاب ليس أقل إباحيه من الصوره المرسومه على غلافه.

وطأت قدمي محطة القاهرة وأنا أحمل الكتاب هذا، لا أدري أين أذهب به؟ إلي كلية الفنون الجميله حيث الرسم على الغلاف، أم إلى معهد السينما حيث مايحمل الكتاب بين طياته؟!؟

سامحني يارب
مصطفى سليم

http://www.facebook.com/mostafa.sleem?v=app_2347471856&ref=profile#/note.php?note_id=217326726763

§ 2 Responses to عقول قبيحه

اترك رداً على Mostafa Sleem إلغاء الرد

What’s this?

You are currently reading عقول قبيحه at Mostafa Sleem Art.

meta